من ذكريات الطفولة
من ذكريات الطفولة
من منّا لا يتذكر سنوات طفولته؟
أو على الأقل يعلق في ذهنه بعضٌ من رواسبها التي تدوم معه زمنا طويلا؟
ومن منّا لا يحن إلى أيام الزمن الجميل الخالِ من العولمة ونفاق الآلة وحضارة المصانعة؟
من منّا لا يهرب بذاكرته أحيانا ليعيش في لذة خلسٍ لحيظات قد عفا عليها الزمن إلا من بقايا ذاكرة قد أعياها التذكر؟
أنا من صنف من الناس أقدس القديم الجميل واحن إليه حنين الطيور إلى أوكارها وكثير ما تأخذني إغفاءة لذيذة اعيش فيها متعة ذكريات وعبق ماض منصرم قد مسخته الكهرباء والآلة وأحالته إلى شبح باهت لا يتسنى لنا الدنو منه.
لازلت أذكر ذاك اليوم الغريب من عام 1974 حينما اقتادني أخي الأكبر مني وقادني أنا وقريب لي أسمه هيثم وأبن عمي ومررنا إلى مصور في الحارة حيث أدخل رأسه تحت قطعة من القماش لتخرج لي صورة أفزعتني وانأ أقرع الرأس جاحظ العينين وليقودنا كجداء مسالمة إلى مبنى كبير أصطلح ان أسميه مدرسة وليتكلم أخي مع رجل أصلع يميل الى السمنة قليلا ثم يأخذ أوراقا وصورا ثم ليسارع إلى جذبنا بوداعة إلى قاعة كبيرة أسمها صف دراسيّ لنجلس في مقعد خشبي قاس عرفنا أن اسمه مقعد فيما بعد.
جلسنا ثلاثتنا في مقعد واحد ثم خرج أخي ليراقبنا من الشباك ولم ينبس أي منا ببنت شفة ولا زلت اذكر إنني كنت اتثائب بشكل متواصل حتى شعرت بان خدودي ستتشقق لا محالة.
كنت اجول ببصري في أرجاء القاعة تارة وفي الرؤؤس القرعاء الملساء والتي تناثرت في أرجاء الفصل ككوم من البطيخ وكان عدد هذه الرؤؤس يربو على خمسة وخمسين أو يزيدون قليلا.
دخل عندنا رجل عرفنا أن اسمه معلم وان علينا ان نقوم إذا ما دخل عندنا وألا نجلس إلا إذا أمرنا بذلك وكنا نرتعب لدى مروره بقرب مقعد احدنا خوفا من عصاته التي لا تكاد تفارقه وكان إسمه حكمت وكان احمر قانيا لدرجة اننا أسميناه فيما بعد ((حبة البندورة)) وكان إذا ما غضب على احدنا أرغى وأزبد حتى تناثر رذاذ بصاقه الذي كنت أشم فيه رائحة دهن عتيق لعله قادم من تاثير مهنته بعد الدوام إذ ان لديه ملحمة.
لا زلت اذكر جاكيته ذا اللون البني والذي لم يفارقه حتى آخر مرة رأيته فيها قبل اكثر من خمسة عشر عاما ولعل صورته التي لم تزل مطبوعة في مخيلتي له هي بذلك الجاكيت البني الذي بالكاد ان يغطي كرشا مستديرة ،ولا زلت اذكر ان تلك الجاكيت لم تكن مصلوحة جيدا إذ أن اطرافها السفلية كانت معكوفة إلى الاسفل بطريقة دراماتيكية.
من اللحظات الجميلة التي كانت تفرحنا هي حصة الرياضة والتي كنا نتدافع فيها كلنا حول كرة صغيرة من الجلد اكلد اجزم بأنني لم المسها قط وخاصة ان وحشا بهيئة آدمي كان يقرأ في صفي وكنا إسمه حسين وكنا نلقبه بحسين ابو الطبيخ كناية عن شراهته وضخامة جسمه إذ انه لو تم صرفه إلى أطفال لربما عادل سبعة او أكثر من حجمي.
نعم لم نكن نجرؤ على الإقتراب من تلك الكرة الجلدية المفرزة وكنت احلم يوما ان اعانقها ولو لحظة فلم أفلح.
كنا نخاف كثيرا من أبي الطبيخ فقد كان أشرس طالب وأضخم طالب وكان الكل يحرص على خطب وده ورضاه فهو شريكنا في شطائر الجبن والمربى والزعتر والويل كل الويل لمن يعانده.
في يوم من الأيام دخل ساع المدرسة ((عبد الكريم)) وكان يحمل كتبا ملونة جميلة تفوح منها رائحة حبر المطابع التي كنت اعشقها واحن اليها حتى الآن وقاموا بتسليمنا كتب القراءة ومازلت إلى الآن أحفظ الدروس الأولى :رأس رؤؤس قدم زرد
را رو ري
را را را رو رو رو ري ري ري
وهذه الدروس إرتبطت بذهني بمدرس العربية وكان اصلع أسمر دائم التعرق شاحب الوجه يتكلف الإبتسام وإسمه علي وقد طلب منا حفظ نشيدة: هذي الهرة ما احلاها **** سمرا سمرا ما اذكاها
وأذكر انه طلب مني ان اسمعها ولم اكن حفظتها جيدا فتظاهرت باني مريض وأخذت اسعل واكح بطريقة مقرفة كلما قرات كلمة حتى قال لي إجلس مكانك وأنقذني من ضحكات زملائي .
ومما لا أنساه ان مربي صفي الأستاذ حكمت ((حبةالبندورة)) قد طلب مني ان اجلس في المقعد الاول وان اكون عريفا للصف لأسجل المشاغبين وهذه من علامات الرفعة في المدارس كالسقاية والرفادة عند اجدادي من قريش وهذا يعني انني كنت الأول على الصف ،غير انه لم اكن فرحا بذلك المنصب الذي سيجعلني أحابي أبا الطبيخ المشاغب الذي لا أجرؤ على مواجهته وفي نفس الوقت لا أستطيع ظلم زملائي الآخرين والظهور امامهم بمظهر الخائف فقررت أن أنتصر على جبني وقررت أن أستعد للمواجهة وأضحت أم المعارك تلوح في الآفاق.
لم يخب ظني فقد حدث يوما أن سجلت على لوح الصف أحد المشاغبين وكان إسمه رياض ونلقبه بصافي وكان هزيل الجسد ،فقال لي انت لا تستقوي الا على الضعفاء امثالي اما أبو الطبيخ فإنك لا تجرؤ على تسجيل إسمه هاي هي المرجلة؟ فقلت له أنت وابو الطبيخ عندي سيّان وسأسجل كل من تسول له نفسه العبث بامن هذا الصف فندت عن أبي الطبيخ صرخة تحدٍ فما كان مني الا ان تناولت قلم حبر من نوع سام فرنسي الصنع وأغمدته في رسغه حتى إنكسر القلم وانا غير مصدق لنفسي فما كان من ذاك الوحش الكاسر الا ان أصبح حملا وديعا يخطب ودي وحينها عرفت ان الشجاعة تنبع من القلب وأصبح الجميع يهابني في الصف بعد ان مرغت انف ذلك المارد في التراب طبعا رأيت ابا مراد((أبو الطبيخ سابقا)) قبل سنوات اثناء إجازتي وقد أصبح قمة في الأخلاق والإلتزام الديني وضحكنا كثيرا حينما إسترجعنا ذكريات الطفولة.
كانت بقالة ام نايف ملاصقة للمدرسة وكنا نتسابق عليها في الفرضة من اجل شراء الكيك او الكعك او المرطبات وكثيرا ما كنا نأخذ من غير ان ندفع وذلك للإزدحام على حانوتها الذي تفوح منه رائحة تثير جنون المعدة،وكثيرا ما كانت أم نايف تصرخ علينا وتقول أخرجوا عني،لا أريد ان ابيعكم شيئا وذلك لكثرة صراخنا عليها وسرقات البعض وعجزها عن خدمتنا جميعا في فترة الربع ساعة التي نستريح فيها.
من أسوا الذكريات فترة المسائي إذ انه كان يتوجب علينا الدوام بنظام الفترتين فشهر صباحي وشهر مسائي ،وفي الشهر المسائي كان انتظامنا يبدا من الثانية عشرة وحتى الخامسة مما يعني عودتنا في الظلام في الفصل المطير مما يعني خوفنا من أمنا الغولة وابي رجل مسلوخة والضباع الهائمة التي تبحث عن عظام الاطفال اللذيذة كما اخبرتنا بذلك عمتي مها رحمة الله عليها صاحبة اجمل أقاصيص وأساطير كنت كتبت عنها الكثير من الأقاصيص الجميلة في منتدى الحوت عجل الله فرجه الشريف حتى اقترح علي احدهم بتمويل طباعة مجموعة قصصية عن حكايات عمتي مها قد ابدأ بها هنا لو شجعتموني.
لا أريد ان أغمط عمتي مها حقها في عجالة فهي قد أسهمت إلى حد ما في صياغة طرق تفكيرنا بأقاصيصها في ليالي الشتاء الباردة المطيرة المظلمة حيث ضوء السراج يتهادى بين كانون فحم قد تناثرت على جوانبه حبات من الكستناء والبلوط على أنغام زمجرة رياح شتوية عاتية
وقد اندسيت في فراشي حامدا الله تعالى على أنني داخل فراش دافىء وبين إخوتي ولست بمتناول أي ضبع او غولة قد ((تقرقط ))عظامي على رأي عمتي مها.
ومن الذكريات الجميلة التي ابكيها إلى الان جلسات الصيف على ضوء القمر حيث تجلس جارتنا أم فيصل مع والدتي رحمها الله ويتجاذبان اطراف الحديث عن ذكريات الماضي وكيف تبدل الزمان واغنسان وكنت اجلس لأسترق السمع متظاهرا باني أقرا كتابا او قصة او اعبث بمذياع قديم.
لحديث امي رحمها الله تعالى مع ام فيصل ((وهي أبنة عمتي بالمناسبة)) ولا زالت على قيد الحياة رونق خاص إذ لا تسمع الا صوت صرصار الحقل او نقيق بعض الضفادع وتشم رائحة المقره((نبات ذو رائحة طيبة تاكله الماشية بنهم)) وتجول ببصرك في السماء الصافية التي لم تتلوث بقذارات العولمة والدولار والذي قالت عمتي مها لبائع الخضار المتجول يوما والذي تحجج بارتفاع أسعار الخضار بان الدولار قد ارتفع فقالت له عمتي ببساطتها ((الله يلعن أبو الدولا ر على أبو اللي يأكلوه)).
كانت أيام خير البشر كانوا بشرا والإنسان كان يتمتع بآدميته تاكل مما طبخته حارتك كلها فطبق من المجدرة وهناك طبق من العدس وصحن رائب وسطلا من المخيض وبيضا بلديا وخضار طازجة وفريكة شهيّة وكشك يسيل له اللعاب وجعدة ومرار وعلت وحميض وعكوب وخبيزة كلها من الحقل بلا كيماوي او سموم او إذلال امبريالي او قمح مخلوط بالذل والتنازل